«أنا مقاتل، لست مجرماً. والمسار الذي سلكته أملته عليّ الإساءات لحقوق الإنسان التي تُرتَكب ضد فلسطين»..
فصل جديد في حكاية مؤلمة وطويلة بطلها جورج إبراهيم عبدالله قائل الجملة أعلاه. فبعد أن رفضت المحكمة 11 طلباً للإفراج المشروط عنه على مدار السنوات الماضية، وافقت اليوم محكمة فرنسية على منحه إفراجاً مشروطاً من 6 ديسمبر القادم. واشترطت المحكمة في قرارها لحصوله على هذا الإفراج أن يغادر الأراضي الفرنسية للأبد، وألا يعود إليها تحت أي ظرف.
جورج عبدالله في السجون الفرنسية منذ 40 عاماً كاملة، مما يجعله أقدم سجين لبناني في أوروبا بالكامل. وتهمته هي المشاركة والتواطؤ في اغتيال دبلوماسيين أجانب. النيابة الفرنسية العامة لمكافحة الإرهاب أعلنت أنها سوف تستأنف ضد هذا القرار. ويبدو أن النيابة عازمة على أن يقضي جورج عبدالله عقوبته كاملة، وهي السجن مدى الحياة.
تلقى جورج تلك العقوبة عام 1986 لإدانة بالمشاركة في قتل الأمريكي تشارلز راي والإسرائيلي ياكوف بارسيمانتوف في باريس عام 1982. وبمجرد صدور الحكم نُقل جورج إلى سجن لانميزان في جنوب غربي فرنسا. وقد أصبح من الممكن إطلاق سراحه بشكل مشروط منذ عام 1999 بموجب القانون الفرنسي، لكن طلبات الإفراج المشروط التي تقدم بها رفضت.
السجين السياسي اللبناني جورج إبراهيم عبدالله يجلس في المحكمة أثناء محاكمته في ليون بفرنسا في 3 يوليو 1986 (أ ف ب)
باستثناء طلب واحد حين وافق القضاء في 2013 على طلب إفراج مشروط بأن يُطرد الرجل من الأراضي الفرنسية عبر قرار من وزير الداخلية. لكن وزير الداخلية الفرنسي آنذاك، مانويل فالس، لم يبال بهذا القرار، أو يصدر قراراً بطرده كي لا يسمح له بالتبعية بالخروج من السجن.
لكن هذه المرة، في عام 2024، صرح لوي شالانسيه، محامي جورج، بأن قرار المحكمة الجديد ليس مشروطاً باتخاذ مثل هذا القرار من قبل الحكومة، معتبراً ما حدث انتصاراً قضائياً وسياسياً.
جورج عبدالله، أو كما تُعرّفه الصحف الدولية بأنه أقدم سجين في العالم مرتبط بالصراع في الشرق الأوسط، أو أقدم سجين سياسي في أوروبا، كما تصفه الصحف الأوروبية، هو القائد السابق للفصائل المسلحة اللبنانية. كان اعتقاله الأول عام 1984 بتهمة حيازة أوراق مزورة وأسلحة، ثم أُضيفت له تهمة التواطؤ في القتل، ثم تهمة محاولة اغتيال القنصل العام الأمريكي روبرت أوم في ستراسبورغ عام 1984.
لكن قصة جورج الحقيقية تبدأ منذ لحظاته الأولى. فقد وُلد في الثاني من أبريل عام 1951، في قرية القبيات بقضاء عكار شمال لبنان، لعائلة مسيحية مارونية، وكان والده يعمل في الجيش اللبناني. وعُرف جورج حركياً باسم عبدالقادر سعدي. منذ شبابه الأول انضم جورج إلى العمل السياسي، فصار عضواً في الحزب القومي السوري الاجتماعي.
وفي تلك الأثناء أكمل دراسته في دار المعلمين في الأشرفية ببيروت. ثم تخرج فيها عام 1970، وبدأ حياته المهنية مدرساً في مدرسة بمنطقة أكروم بعكار. بينما كان من المنوط أن يفتح أعين التلاميذ على العالم كانت عينه هو تتفتح يوماً بعد الآخر، ويزداد وعياً بما يحدث في المنطقة، ويحدد كذلك أي الطرق التي سوف يسلكها لمواجهة ما يدور في منطقته العربية.
آمن جورج أن مظلومية الشعب الفلسطيني هي الأهم، وأن البوصلة النضالية يجب أن تتجه نحوها، وأن حل قضية فلسطين سيحل مشاكل المنطقة بالكامل. فرغم أنه انضم في البداية إلى الحركة الوطنية اللبنانية التي نشطت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فإنه قد انتسب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي جبهة معروفة بتوجهها اليساري.
ومع بداية عام 1980 قرر جورج عبدالله مع مجموعة من رفاقه أن يؤسسوا الفصائل المسلحة اللبنانية. وهي جبهة تبنت الفكر الماركسي المناهض للإمبريالية. وكانت أنشطتها بشكل أساسي تهدف إلى خدمة القضية الفلسطينية. لذا ففي الفترة بين عامي 1981 و1982 تبنت الحركة أكثر من 5 هجمات في أوروبا.
وقد ارتبطت عديد من عمليات الاغتيال بالحركة، مثل العمليات التي حُوكم لأجلها جورج، وهما تشارلز راي، نائب الملحق العسكري في السفارة الأميركية بباريس، ويعقوب بارسيمانتوف، المستشار الثاني في السفارة الإسرائيلية في باريس. لم يخض جورج محاكمته خافض الرأس أو مكسور الروح، بل وقف شامخاً ليؤكد أنه ليس مجرماً كما يريد الادعاء الفرنسي أن يصوره، بل هو مقاتل ينتصر لحق الشعب الفلسطيني في الحياة.
وقد تربصت به الحكومة الفرنسية طويلاً لتعتقله. حيث كان مقيماً في سويسرا بشكل أساسي، لكنه لأسباب غير معروفة استأجر شقة في فرنسا وقرر أن ينتقل من سويسرا إلى فرنسا كي يدفع قيمة إيجار الشقة. فاعتقلته الشرطة الفرنسية في 24 أكتوبر عام 1984 بتهمة أولية وهي حيازة جواز سفر جزائري مزور. وحُكم عليه سريعاً بالسجن 4 سنوات.
رداً على اعتقاله وسجنه قامت المجموعة المسلحة التي يديرها باختطاف الدبلوماسي الفرنسي سيدني جيل بيرول في 23 مارس عام 1985. وافقت فرنسا في النهاية على تبادل المعتقلين عبر الجزائر كوسيط. لكن فرنسا لم تلتزم بكلمتها بخصوص إطلاق سراح جورج.
تحججت الشرطة الفرنسية بأنها أثناء وقت تنفيذ الصفقة اكتشفت متفجرات وأسلحة في منزله. وقالت إنها وجدت أيضاً سلاحاً تعتقد أنه المستخدم في قتل الأميركي والإسرائيلي. لذا في مارس عام 1987، حُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وكانت طريقة سير المحاكمة توحي بأن هناك ضغوطاً خارجية تهدف إلى توقيع العقوبة على جورج، وعرقلة كل طلبات الإفراج عنه.
وفعلاً أشار محاميه لاحقاً إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت طرفاً للضغط على الجانب الفرنسي لرفض كل الطلبات الممكنة للإفراج عنه. وفي المرة الوحيدة التي قُبل فيه طلب إطلاق سراحه مبدئياً كان قد سبقها زيارة في فبراير عام 2012 من رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي للعاصمة الفرنسية والمطالبة المباشرة بإطلاق سراحه، ووصفه بأن قضية سجنه قضية سياسية وليست جنائية.
استمر جورج في محاولات الخروج عبر مراسلات متكررة مع وزير الداخلية الفرنسي، لكن دون جدوى. وكان رفاقه على مدى الأعوام الطويلة الماضية يحرصون على التظاهر وعلى الاحتجاج في كل مناسبة ممكن للمطالبة بالإفراج عنه. حتى إنه خلال الحرب الفلسطينية- الإسرائيلية 2023، التقى وفداً من الحزب الشيوعي اللبناني مع قادة حماس وطلب تبني مسألة إطلاق سراح جورج في أي صفقة تبادل.
كذلك تطالب عدة منظمات بالإفراج عنه مثل الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، والاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام، وجمعية التضامن الفرنسية الفلسطينية، ومركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.
واليوم يقف الجميع مترقباً الخطوة القادمة للنيابة الفرنسية، فقد كانت النيابة حريصة تماماً على ألا يرى الرجل النور. فقد صرحت المديرية العامة للشرطة منذ أكثر من 24 عاماً بأنها تخاف أن يمثل إطلاق سراحه، باعتباره شخصية رمزية في النضال ضد الصهيونية، حدثاً كبيراً في لبنان. ونظراً لما يعيشه لبنان اليوم، واشتعال الصراع اللبناني الإسرائيلي، فقد تتضاءل فرصة خروج جورج، لكن قد تحمل الأيام القادمة المفاجآت.